إعادة التفكير في التكنولوجيا في الزراعة المستدامة

ليست التكنولوجيا ولا المعدات الحديثة نقيضًا للاستدامة بطبيعتها. في مزرعة الدكة، اكتشفنا أن توظيفها بوعي وتفكّر يمكن أن يجعلها قوة فاعلة للتجديد. فهي تمنحنا رؤية أوضح، وتوسع إمكاناتنا، وتساعدنا على الاستجابة لإيقاع الطبيعة بدلًا من معارضته. هذا المقال لا يهدف إلى استعراض قائمة طويلة من الأدوات والتقنيات، بل إلى مشاركة بعض التجارب القليلة التي أحدثت فارقًا ملموسًا في طريقة عملنا داخل المزرعة وخارجها

آلات في خدمة الإنسان

في المزرعة، تبقى زراعة النخيل واحدة من أكثر المهن كثافة في العمل اليدوي. فالتّقليم، والتّلقيح، والتّرقيق، والحصاد تتطلب وقتًا وجهدًا جسديًا كبيرًا، ومعهما مخاطر لا يُستهان بها

قرارنا باعتماد اللوادر الأمامية كان في البداية بدافع الكفاءة. لكن سرعان ما اكتشفنا أن المكسب الأهم لم يكن في السرعة وحدها، بل في تعزيز الأمان. من خلال تكييف اللوادر لكل مهمة، وإشراك فريقنا في تصميم الملحقات وتطوير سير العمل، نجحنا في تخفيف الجهد وتقليل المخاطر. النتيجة: لم تسجل المزرعة أي حادثة، وهو إنجاز أعتز به بعمق

ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى المهندس يوسف غنمي، قائد عمليات المزرعة، الذي لعب دورًا محوريًا في تنفيذ هذه الرؤية وتحويلها إلى واقع. بعقليته التحليلية وروح التعاون التي بثها بين الفريق، تحولت الآلات من مجرد أدوات إلى شركاء في العمل

أكياس تتجاوز الحماية

لسنوات، اكتفينا باستخدام أكياس محلية بسيطة لحماية التمور من الحشرات والآفات. كانت تؤدي الغرض، لكنها مع الوقت كشفت عن آثار جانبية غير متوقعة: جفاف، تغيّر في اللون، بل وحتى مشاكل فطرية

نقطة التحوّل جاءت خلال زيارة إلى بساتين التمور في يوما، أريزونا. هناك، اكتشفنا تنوّعًا واسعًا من حلول التكييس، صُمّم كل منها لمعالجة مشكلة محددة: من الحماية من أشعة الشمس إلى ضبط الرطوبة. عدنا برؤية جديدة، وبدأنا التجريب بمواد وألوان وأحجام شبكية مختلفة

النتائج كانت واضحة: أصناف مثل الصّقعي والعجوة والمجدول ازدهرت مع الأكياس التي توفّر توازنًا بين الظل والتهوية، بينما السكري والخلاص والخضري احتاجت إلى ضوء أكثر وتدفق هواء أكبر. جربنا البوليستر، والأقمشة القطنية المخلوطة، والبولي إيثيلين. واليوم، نستخدم تركيبة مخصّصة لكل صنف. ورغم أن هذه الأكياس مستوردة من الصين وليست الأرخص، إلا أنها قابلة لإعادة الاستخدام لخمس إلى عشر سنوات، وتُحدث فارقًا ملموسًا في جودة المحصول

والأجمل أن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) تجري حاليًا دراسات رسمية على هذه الأكياس، لتقدّم لنا ولغيرنا قاعدة علمية تساعد في اتخاذ قرارات أكثر وعيًا وارتكازًا على البيانات

الاستماع إلى التربة بالمجسات

 من بين جميع خطواتنا نحو الاستدامة، ربما كان التغيير الأهم في طريقة الري. لسنوات طويلة اعتمدنا على الحدس، نسقي عمياً ونظن أننا نحسن. لكن الحدس قادنا مرارًا إلى الإفراط


قبل ست سنوات، حصلنا على أول مجسات رطوبة من شركة ألمانية وضعناها على عمق 60 سم حيث الجذور، و120 سم كعمق إضافي. كنا نظن أن 120 سم ضروري، لكن التجربة أثبتت أن 90 سم تكفي. بمرور الوقت، تعلمنا تحديد نقاط إعادة الملء والإجهاد والتشبع، وضبطنا جداول الري بدقة أكبر
النتيجة؟ أكثر من 50% انخفاض في استهلاك المياه، تمور أجود لونًا وطعمًا، قشرة أنعم، ونهاية واضحة للأمراض الفطرية. لكن لم تكن المجسات بلا عيوب، فقد واجهتنا مشكلات في الاتصال والمعايرة
عندها قدّم لي صديق قديم، ماثيو فوجل، شركة Doktar المتخصصة في الزراعة الدقيقة. جرّبنا تقنيتهم، ثم ثبّتنا 21 مجسًا في أنحاء المزرعة. برنامج الري أُعيد بناؤه من الصفر، وكاوست تتابع الآن دراسة الأداء في بيئتنا المحلية. حصاد هذا العام سيكون اختبارًا عمليًا جديدًا
وأحد الدروس المفاجئة: التربة الرملية احتفظت بالرطوبة أطول من الطينية. والنتيجة أننا نروي الرملية مرتين أسبوعيًا فقط، مقابل ثلاث مرات للأقسام الطينية. كما اكتشفنا أن الري عالي الحجم أثناء مرحلة التلوين في الأراضي الرملية يمنع التمور من النضج، بسبب الرطوبة الزائدة التي تُضعف تركيز السكريات. اليوم، بتجاربنا، أصبحنا نعرف كيف نواجه هذه المشكلة بفاعلية

الاستماع إلى الأرض: أبعد من الرطوبة
قياس الرطوبة يروي جزءًا من القصة فقط. لذلك نعتمد أيضًا على أدوات محمولة لقراءة مؤشرات أخرى

التوصيل الكهربائي (EC): لمتابعة مستويات الملوحة

درجة الحموضة: لضبط توازن التربة بين الحموضة والقلوية

انضغاط التربة: لتقييم سهولة وصول الجذور والتهوية في العمق

هذه القياسات ليست بديلاً عن الملاحظة البشرية، بل مكمّلة لها. فهي تمنحنا أرقامًا ونقاط بيانات، لكن معناها الحقيقي لا يتضح إلا بخبرة الفريق، وحدسهم، وإنصاتهم لإيقاعات الأرضهذه القياسات ليست بديلاً عن الملاحظة البشرية، بل مكمّلة لها. فهي تمنحنا أرقامًا ونقاط بيانات، لكن معناها الحقيقي لا يتضح إلا بخبرة الفريق، وحدسهم، وإنصاتهم لإيقاعات الأرض

التصنيف الذكي وتطوّر المصنع

في مصنع المعالجة، كانت نقطة التحوّل الحقيقية هي إدخال آلة التصنيف بالذكاء الاصطناعي من Joysort. هذه التقنية لم ترفع فقط مستوى الدقة والكفاءة، بل منحتنا ثباتًا وجودة لم نحققها من قبل

تحت إشراف وليد نوشاد، جاء تنفيذ النظام كرحلة تعلم متواصلة. تعالج الآلة اليوم ما يقارب طنين من التمور في الساعة، ومع كل موسم نواصل "تدريبها" لتتعرف بدقة أكبر على الفروق الدقيقة في الحجم والقوام ودرجة النضج. والأجمل أن عملية التصنيف باتت تُنجز بعد وقت قصير جدًا من الحصاد، بدقة غير مسبوقة

نجاح Joysort لم يقتصر على الأتمتة، بل فتح أعيننا لإعادة التفكير في كل ما يلي الحصاد: من كيفية جمع التمور في الحقول، إلى كيفية توجيهها للأسواق المختلفة. لقد كانت التقنية مدخلاً للبصيرة، لا مجرد أداة

لكن وراء كل هذا، يقف فريق التصنيف: كايلاش، رافيندرا، فينود، مانوج، ميناج الدين، وولي. قيادتهم، وأخلاقيات عملهم، واهتمامهم بأدق التفاصيل، هي ما يضع اللمسة الأخيرة على كل ثمرة تمر تغادر مصنعنا

ابتكار قيد الإنجاز: آلة نزع النوى

نعمل اليوم على تطوير آلة مخصّصة لنزع نوى التمور، بالشراكة مع شركة Ashlock الأمريكية الرائدة في هذا المجال. هدفنا ليس مجرد تحسين أداة، بل تكييف نظام عالمي ليتناسب مع خصائص تمورنا ويضع معيارًا صناعيًا جديدًا

هذه المبادرة يقودها عثمان سعيد جنبًا إلى جنب مع وليد، حيث يواصلان العمل الدؤوب على تحويل الفكرة إلى واقع. ورغم أن المشروع ما زال في طور التطوير، إلا أن أثره المحتمل على الإنتاجية، والنظافة، وجودة المنتج يبدو هائلًا

إن خبرة Ashlock الطويلة، خصوصًا في تقنيات نزع نوى الفواكه الحساسة، تجعلها الشريك المثالي لهذه الخطوة. ومعًا، نطمح لبناء إنجاز لا يخدم مزرعة الدكة وحدها، بل يُسهم أيضًا في رفع كفاءة قطاع التمور في المنطقة كلها

شراكة أوسع: كاوست والبحث التطبيقي

شراكتنا مع كاوست (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية) تتجاوز مجسات الري وتجارب الأكياس؛ إذ تشمل اليوم أبحاثًا تطبيقية في مجالات متعددة مثل الملقحات الذكرية، وأنظمة التسميد، وعوامل أخرى تؤثر مباشرة على إنتاجية التمور واستدامتها في البيئات القاحلة

وضمن برنامج تعاوني مع وزارة البيئة والمياه والزراعة والمركز الوطني للنخيل والتمور، تقود كاوست سلسلة من المشاريع البحثية التطبيقية على مستوى المملكة

هذه الشراكة لم تفتح لنا فقط أبواب تبادل المعرفة والتحقق العلمي، بل منحت أيضًا إمكانات لرؤى أوسع قد تسهم في صياغة سياسات مستقبلية للزراعة في المناخات المشابهة

تأملات: الأداة ليست العدو

لم تكن التكنولوجيا يومًا عدوًا للاستدامة؛ العدو الحقيقي هو سوء الفهم. وحين تُستخدم الأدوات بوعي، تصبح وسيلة لنسمع الأرض أوضح، ونتحرك بدقة أكبر، ونستجيب بروح أكثر إنسانية لاحتياجاتها
الأمر لا يتعلق بالميكنة في حد ذاتها، بل بالفضول والتواضع والقدرة على التكيّف. كل أداة اعتمدناها من المجسات، إلى اللوادر الأمامية وأنظمة التصنيف، لم نختَرها إلا لأنها مكنتنا من القيام بشيء واحد جوهري: رعاية المزرعة بشكل أفضل
ما زلنا في رحلة تعلّم، نخطئ ونصحح، لكننا ننسج بخيوط هادئة بين القديم والحديث، بين الحدس والتحليل، بين الإنسان والآلة… لنصنع شيئًا فريدًا اسمه الدكة

Previous
Previous

بذور التجديد: رحلتنا نحو الزراعة التجديدية

Next
Next

ظهور الدكة على موقع ناشيونال جيوغرافيك المسافر