إرث متجذّر في التراب: بدايات مزرعة الدكة العضوية

الجذور العميقة لزراعة النخيل في الغاط

زراعة النخيل لم تكن يومًا مجرّد مهنة، بل إرث حيّ من أجدادنا. في عائلتنا، هي تقليد متوارث جيلاً بعد جيل، راسخ في تربة الغاط، مسقط رأسنا في قلب المملكة العربية السعودية. على مر مئات السنين،  رافقت أشجار النخيل حكاية عائلتنا، شاهدة على أعوام العطاء كما على مواسم التحدّي، تمنح بلا انقطاع وتصير بلا حدود. هذا الإرث يتجاوز الإنتاج؛ إنه فخر وهوية واستمرارية، ورابط مقدّس يجمعنا بالأرض والزمن

الجغرافيا والمناخ المميّز للغاط

تبعد الغاط نحو 250 كيلومترًا شمال غرب الرياض، على أطراف هضبة نجد ووادي الرمة. وتتميّز بجغرافيتها الفريدة، فهي واحة عريقة تتوسط نتوءات صخرية ووديان خصبة. ارتفاعها يلطّف من حرارة الصيف القاسية، ومناخها يمنح صيفًا طويلاً جافًا وشتاءً قصيرًا باردًا، مما يجعلها بيئة مثالية لزراعة النخيل. تربتها الغنية بالمعادن ومياهها الجوفية المتدفقة طبيعيًا، إلى جانب التباين الحراري الكبير بين الليل والنهار حيث الأيام الحارة والليالي الباردة، تُسهم جميعها في زيادة تركيز السكريات داخل الثمار، فتمنحها طعمًا فريدًا وقوامًا استثنائيًا. لذلك ليس غريبًا أن أشجار النخيل قد ازدهرت هنا عبر القرون؛ فهذه الأرض خُلقت لها

من المزارع العابر إلى الملتزم: لحظة التحول

نشأت على هذا الإرث، لكن لسنوات طويلة بقيت على هامشه. استثمرت في المزارع منذ عمر مبكر. كانت الأولى حين بلغت الثالثة والعشرين،  لكنني كنت في الحقيقة مجرد مزارع عابر، بل ربما مزارع غائب. حياتي تشكّلت وفق إيقاع ومتطلبات العمل في المدينة، بعيدًا عن المزارع التي حملت إرث عائلتي

كل ذلك تغيّر عام 1999، حين انتقلت إلى الرياض. فالقرب من الغاط أعاد إشعال الشغف داخلي. وجدت نفسي بين الوظائف، ولأول مرة منذ زمن طويل بلا عجلة أو ضغوط. عندها قررت أن أبدأ شيئًا جديدًا، شيئًا شخصيًا. بدأت العمل في قطعة أرض أهداني إياها والداي الحبيبان رحمهما الله، بنيّة إنشاء مزرعة مستدامة، ثم بناء بيت عائلي عليها. لم يكن الهدف الربح، بل أن تكون واحة للاستجمام

البستان: حديقة تقليدية وملاذ خاص

في ثقافتنا يطلق على هذا النوع من المزارع اسم البستان. تاريخياََ، كان البستان شريان الحياة لأهالي القرى والبلدات الصغيرة، حيث شكّل مصدر غذاء ورزق أساسي. كانت هذه الحدائق عالية الإنتاجية، فالماء فيها ثمين، وكل شبر من الأرض المروية يُستغل بأقصى طاقته. كان الناس يزرعون التمور والتين والعنب والخضروات، ويزرعون محاصيل العلف، ويربّون الحيوانات لا لمجرد البقاء، بل لإعالة أسرهم واستمرار حياتهم. البستان كان المكان الذي تنشأ فيه العائلات، وتوفّر غذاءها، وتزدهر رغم ندرة الموارد. أما بالنسبة لي، فقد كان أكثر من ذلك؛ كان ملاذًا ومأوى، أبتعد فيه عن صخب المدينة لأتصل بما هو جوهري وأصيل. وهكذا يصبح البستان مساحة تجمع بين الوظيفة والملاذ في آن واحد

ذكريات الطفولة وملامح الأرض

قبل أن تصبح مزرعة، كانت هذه الأرض تناديني بصمتها. ما زلت أذكر جلوسي على الكثبان الرملية التي تحد المكان، أحلّق بخيالي فيما يمكن أن يكون عليه يومًا ما. أولى ذكرياتي عن مزرعة الدكة لم تكن أشجار النخيل ولا المباني، بل أرضًا صحراوية قاحلة تحمل بين حبات رملها وعودًا كامنة. من جهة، ينهض كثيب رملي مهيب، ومن الجهة الأخرى يمتد سهل فيضي واسع يجمع مياه السيول الموسمية القادمة من سلسلة جبال طويق. هذه المياه حين تنحسر تترك وراءها طبقات من الرواسب والمعادن، فتغني التربة بخصوبتها الطبيعية. وتحت السطح، ترقد مياه جوفية عذبة ووفيرة. جلست هناك أحاول أن أرى المستقبل، واليوم بعد سنوات، أعيش الامتنان لأني أشهد تحقق ذلك الحلم

بناء نظام بيئي مكتفٍ ذاتيًا

كانت الرؤية الأولى بسيطة: بضع نخلات، بعض الأغنام والماعز، ورقعة صغيرة لزراعة العلف. نظام بيئي متكامل يوفّر احتياجاته بنفسه. وكحال معظم الرحلات التي تبدأ ببساطة، سرعان ما أخذ المسار يتعقّد. ومع مرور الوقت، تحوّل تركيز المزرعة تدريجيًا نحو زراعة النخيل بينما تلاشى وجود الاعلاف شيئًا فشيئًا. ومع ذلك، بقي مبدأ واحد ثابتًا منذ اليوم الأول: لا كيماويات، لا مبيدات، ولا أي مواد ضارة

الزراعة العضوية: نية قبل أن تكون توجّهًا

لم يكن الأمر خيارًا "عضويًا" بالمعنى المتعارف عليه اليوم، ولا حتى بالمعنى التسويقي. آنذاك، لم تكن الزراعة العضوية مطروحة للنقاش على نطاق واسع. كان قراري ببساطة قائمًا على نية واضحة: أن أخلق مساحة آمنة لعائلتي، وخصوصًا لأطفالي، خالية من أي بقايا ضارة. أردت أن تبقى الأرض نظيفة وطاهرة. لم تكن فكرة تحويل مزرعة الدكة إلى مشروع تجاري مطروحة أصلًا؛ كانت بالنسبة لي ملاذًا شخصيًا، لا عملاً تجاريًا

التحوّل عبر التحديات

جاء التقدّم ببطء وبطبيعة عضوية. كنّا نموّل الري من خلال بيع الفسائل، ونزرع على مراحل، مكتفين بما نستطيع تحمّله، وكل قرار يُتخذ بعناية. وحتى عام 2006 كنت لا أزال مرتبطًا بوظيفة مرهقة، فبقيت المزرعة في معظمها بيد القائمين عليها. لكن في ذلك العام مررت بحدث عارض غيرمسار حياتي. عندها انسحبت من مسيرتي المهنية، ولذت بالمكان الوحيد الذي منحني الصفاء: مزرعة الدكة

وهناك… بدأت رحلتي الحقيقية مع الزراعة

إعادة إحياء المعرفة المفقودة

كان ما تبع ذلك تحوّلًا حقيقيًا: من مالك أرض غائب إلى راعٍ حاضر وفاعل. فضولي لم يعرف حدًا؛ صرت أطرح الأسئلة في كل تفصيلة. لماذا نفعل هذا بهذا الشكل؟ ماذا تقول البيانات؟ وكيف واجه أجدادنا هذه التحديات؟ كلما تعمّقت، أدركت حجم المعرفة التي ضاعت بين الأجيال. كبار السن عاشوا من الأرض، معتمدين بعد توفيق الله على فهم عميق وغريزي، بينما جيلي ابتعد عن التربة في معظم الأحيان

لذلك بحثت، وسألت، وحاورت المزارعين القدامى في الغاط وغيرها، وأعدت اكتشاف تقاليد كادت أن تندثر. سافرت إلى الخارج، والتقيت بمزارعي التمور في مدينة يوما، أريزونا. استعنت بشبكات الجامعة ومنتديات الزراعة العالمية، وبدأت أجرّب وأختبر وأتعلّم. كل موسم كان يقدّم مشكلة جديدة للحل وفرصة جديدة للمعرفة: قشور زائدة، ألوان غير منتظمة، أمراض فطرية. ومع كل تجربة كنّا نتطور، مسترشدين دائمًا بنفس القيم الراسخة

ما بعد العضوي: التحوّل نحو الزراعة التجديدية

مع مرور الوقت، تحوّلت كلمة "عضوي" إلى مجرد شعار رنّان، واتجه عدد متزايد من المزارعين إلى تبنّي الممارسات العضوية ونيل الشهادات. لكن بالنسبة لي، لم يكن الأمر يومًا سباقًا خلف اتجاه أو موضة؛ فقد بدأت أكتشف حقيقة أعمق: أن العضوي وحده لا يكفي

ومن هنا بدأ تحوّلنا نحو الزراعة التجديدية، وهو مفهوم سنخوض فيه بتفصيل أكبر في المقال الثاني من هذه السلسلة. الزراعة التجديدية لا تقتصر على التوقف عن استخدام المدخلات الضارة، بل تتمحور حول إعادة الحياة للتربة، وتعزيز التنوع الحيوي، وبناء خصوبة طويلة الأمد، وزيادة القدرة على التحمّل. إنها تعني أن ننظر إلى كل شجرة، وكل قطرة ماء، وكل حفنة تراب لا كمجرّد مورد، بل كأمانة ومسؤولية

إحياء الممارسات القديمة واعتماد حلول جديدة

عملنا على إحياء أساليب الزراعة التقليدية، مثل استخدام التربة حول أشجار النخيل ليس فقط كحاجز للأعشاب، بل كبيئة حية تحتضن الكائنات المفيدة. كما نظرنا إلى مظلات النخيل الناضج كمنظّمات مناخ طبيعية تتيح لنا زراعة محاصيل أخرى تحتها، تضيف دخلًا إضافيًا وتُعزز التنوع الحيوي في التربة

لكن المبادئ وحدها لم تكن كافية. احتجنا إلى مواد عالية الجودة لإثراء الأرض، وهو ما دفعنا إلى استكشاف الكمبوست والفحم الحيوي، وسنفصّل الحديث عنهما في المقال الثالث. الكمبوست، عندما يُنتج بالطريقة الصحيحة، لا يكون مجرد مادة متحللة، بل مصدرًا زاخرًا بالكائنات الدقيقة والكربون والمعادن. أما الفحم الحيوي، وهو شكل من الفحم الغني بالكربون، فيساعد على احتباس الرطوبة، وضبط حموضة التربة، وخلق بنية طويلة الأمد للنظام البيئي للتربة. ورغم صعوبة الحصول على مصادر متسقة وعالية الجودة، كان ذلك ضروريًا لرحلتنا

فبدأنا الإنتاج بأنفسنا، وابتكرنا مزيجًا من بقايا التمر الجاف، وروث الحيوانات من المزارع القريبة، والفرش الأخضر، إلى جانب الفحم الحيوي الذي ننتجه في مزرعتنا. وللفحم الحيوي تحديدًا، أعدنا استخدام بقايا التمر الغنية بالألياف التي يصعب تحويلها إلى سماد، فحوّلناها إلى إضافة عالية الكربون وذات مسامية مثالية لتربتنا الرملية. وكانت النتيجة مدخلًا محليًا غنيًا بالمغذيات يجسّد فلسفة مزرعتنا الدائرية: لا شيء يُهدر… كل شيء يُعاد توظيفه

التقنيات الزراعية الحديثة وكفاءة استخدام المياه

بالتوازي مع ذلك، اعتمدنا تقنيات الزراعة الحديثة، والتي سنتناولها بمزيد من التفصيل في المقال الرابع. بدأنا باستخدام أنظمة تكييس التمور لحماية الثمار خلال فترة النمو، مما ساعد على رفع الجودة وتحسين المظهر والنظافة وتقليل الأمراض الفطرية. كما قمنا بتركيب أجهزة استشعار للرطوبة تقيس مستوى تشبّع التربة، وتتيح لنا ضبط جداول الري بدقة عالية. والنتيجة؟ خفّضنا استهلاك المياه بأكثر من 50% مع تحسين جودة التمور. أحيانًا… القليل بالفعل يحقق الكثير

رؤية جديدة للزراعة في البيئات القاحلة

ما بدأ كملاذ شخصي تحوّل إلى إدراك أعمق: أن مستقبل الزراعة في البيئات القاحلة لا يمكن أن يشبه الماضي. نحن لا نعتني بالأشجار فحسب، بل نعيد بناء الثقة في الأرض. وحتى مصدر مياه عذب ويبدو وفيرًا مثل مصدرنا، يتطلب استخدامًا دقيقًا ومسؤولًا. فالاستدامة لم تعد خيارًا، بل أصبحت الطريق الوحيد للمضي قُدمًا

وأخيرًا، في المقال الخامس، سنشارك أين تقف مزرعة الدكة اليوم، وإلى أين نتطلع في المستقبل. ما بدأ كبستان وُلد من العائلة والحاجة والخيال، نما ليصبح أكثر من ذلك بكثير. ما زلنا نتعلّم، وما زلنا نجرّب، لكن التزامنا ثابت: للأرض، وللإرث، ولترك ما هو أفضل مما وجدناه

Next
Next

خيمياء الأرض: صناعة الحياة بالكمبوست والفحم الحيوي